الأحد، 16 يناير 2011

تكست -العدد التاسع : تحولات آدم للشاعر خزعل الماجدي


تحولات آدم

خزعل الماجدي

التائهُ.. الغريبُ

الغافلُ.. الإنسانُ

عندما يشعرُبقوته:

يتحول جلدُه إلى حديدٍ

وجسدُه إلى مجنـزرةٍ

وفمُه إلى بوقٍ

ويدُه إلى فأسٍ

وقلبُه إلى أسدٍ

عندما يشعرُ بضعفهِ:

يتحولُ جلدُه إلى حريرٍ

وجسدُه إلى دثارٍ

وفمُه إلى وردةٍ

ويدُه إلى نهرٍ

وقلبُه إلى فراشةٍ

العقيدةُ تُشعره بقوته

الشعرُ يُشعره بضعفه..!!

مثل مدينةٍ مهجورةٍ

أريدُ أن أتمدّدَ دون أن أفكّر بشيءٍ

مثل مدينةٍ مهجورةٍ

تدخلها الأيام

وتخرج منها أشباحُ الذكريات

أريد أن أنامَ بلا وجعٍ

بانتظار أن تموت الزهرة التي في روحي بسلام

أنتظر غسقي

وألمُّ أوراقي في صرّتي التي تحت رأسي

-

لتغسلني الأحزانُ بشلالها الرمادي

لتغسلني بملائكتها العميان

لتفتح دروبي الغائرةَ في جروحي

أريد أن استلقي تحت الشمس

دون أن أبصرَ شيئاً

أريد أن أتبخّرَ

مثل ساقيةٍ منسيةٍ

أريد أن أحترقَ مثل عودِ بخورٍ

دون أن يشمَّ رائحتي أحد.

-

أريد أن أنام بلا خوف

دون أن أرى صورةَ ولدي وهم يعذبونه

دون أن أرى جسدَه مقطَّعاً

دون أن أراه مدفوناً في الصحراء

يا إلهي..

أنت وضعتني في هذه الدنيا

وأنت ستنـزعني منها

ولكن متى؟

قبرُه على ظهرِه

يُولد العراقيّ وقبره على ظهره

يحملهُ أينما ذهب

وحين يتمشى في بلاده

يناديه الموتُ في كلّ طريق

ربما سقطَ في قبرِهِ مبكراً

أو نجا منه زمناً

لكنه سيصل اليه حالما يلتفت.

-

يُولد العراقيّ وسجنه بين يديه

يتّسع كلّ يوم

وتزدادُ قضبانه

ويكبر ليزحف على كلِّ جسدِه وروحِهِ

وفي آخر العمر يسقطُ منه إلى القبر

ويبقى سجنه أغلى ميراث لذريته من بعده.

-

يُولد العراقيّ ومعه كيسٌ من الأمراض

تقفز عليه واحدةً بعد الأخرى

حتى إذا ما وصل نهايةَ العمر

امتلأ الكيسُ بأمراضٍ جديدة

تطيرُ في هواءِ بلادِه

وتدخل في أكياسِهم مرحةً.

-

يُولد العراقيّ وفمُه مغلقٌ بخيطٍ من الحرير

وحين يشبّ يتحول خيطُ الحرير إلى حبل من الكتّان

وفي منتصف العمر يتحول إلى سلاسل من حديد

أما في آخر العمر..

فلا يعود له فم..!!

نقرُ الطبول

عندما خرجتُ من بغداد

كانت هناك نجمةٌ، فوق بيتي، تقطرُ دمعاً

واليوم، ذات النجمة، فوق مسكني في درونتن

تقطرُ دماً

يا إلهي..!

ما الذي فعلوه ببلادي؟

-

تكفيني هذه الأوجاعُ

أتزودُ بها في ليلي ونهاري

وأنا أقطع، في غربتي، هذه المدنَ الفرحةَ..!

-

حين نقروا على الطبول

سمعتُ نبضي

وتذكرتُ أن بلادي أيضاً تنقر على الطبول

ولكني لم أكن اسمع نبضاً لي.

إبرةٌ عمياء

كم وطن مثل وطني

على سديةٍ ينوح

الممرضون يخفون، تحت ملابسهم، الأسلحة

السياسيون يخفون السكاكين

الفرّاشون يتسلمون البقشيش من غرباء ملثمين

المصورون ينظرون صورة قفصه الصدري

الحزبيون يحدّقون الى شريط قلبه

كم وطن مثل وطني

وماذا سأجمعُ من سروجٍ ومن قوافل ؟

من أجل أن تكون الليالي بيضاً

من سأرفعة الى السماء لكي يعلّمني؟

من سأنهض معه صباحا عندما يد قُّ البوق؟

من سأروِّضه أو يروَّضني؟

لأضع رأسي على كتف وطني وأنام مطمئناً.

0

المطر ينزل عليّ لوحدي ويذيبُ جسدي تحته

كما لو أني شبح خارج من الماضي

يدي فارغةٌ

وعيوني تلمعُ بالجنون

لا يزال الصيفُ ساهما ومثقوبا بذكرياتي

لا فرق بيني وبين الموتى

أوراقي لاتدلّني على الطريق

ومزاميري مقفلة الثقوب.

-

الغناءُ الذي سأغنيه لن يكون طاستي

الفراشات التي سأجمعها حولي لن تكون هالتي

المخايط التي سأحوك بها تاريخي لن تكون عكازي

لا أستطيع غرس قدمي في هذه الأرض الغريبة

لاأستطيع خطّ نهاري بالكلمات التي كنت أسكر بها

إبرة عمياء دوّنت أيامي وجرحت صدغي

إبرةٌ عمياء ركضت ورائي وملّخت ثيابي

لم أخط بها خرقةً

لم أرقّـّع بها أرداني

لكني تركتها تعبث بمرحٍ بحياتي.

كان لي ولدٌ

كان لي ولدٌ جميلٌ يتمشى بين الناس مثل قمر

كان لي ولدٌ مثل ماسةٍ يشعُّ

ينـزلُ له مطرٌ

وينـزلُ له نورٌ

وترشُّ النساء وراءَه الماء.

*

ولدي يوجعني

ولدي يئنُّ في أعضائي

ولدي نائحٌ بين الشباك

مثل حمامة النور

التي أوقعها الظلام

*

أنهارٌ من حبِّكَ خضتُها وأنتَ بعيدٌ عني

أنهارٌ تأملتُ فيها ملامحَك

كانت ضحكتُكَ مثل صلاةٍ

كان حضورُكَ مثل هلالٍ

أنهارٌ من حبك تفيضُ

وتغسلني

وتغسلُ أحزاني

وأشفى بك.

هل نسيتَ؟

هل نسيتَ أن قلبي مثقوبٌ؟

فلماذا تريد ملأه بالأفراح؟

هل نسيتَ أن فمي مغلقٌ؟

فلما تريدني أن أصرخ؟

هل نسيتَ أن عقلي معطلٌ؟

فلماذا تريدني أن أكتب؟

هل نسيت أن طريقي مقفلٌ؟

فلماذا تريدني أن أمشي؟

هل نسيتَ أن طعامي مسمومٌ؟

فلماذا تريدني أن آكل؟

هل نسيتَ أن ولدي مخطوفٌ؟

فلماذا تريدني أن أنسى؟

هل نسيتَ أني ميّت؟

فلماذا لا تريد دفن جثتي؟

الأطفالُ يرددون الليالي

لا أحد يستطيعُ قراءةَ ليالينا الجديدة

أكثر من ألف ليلةٍ بكثير

لا ترويها شهرزاد

بل أطفال هرموا بسرعةٍ

ورأوا أهوالاً لم يرها غيرهم

ولذلك فهم يُخطفون أو يُقتلون

كي يتوقفوا عن قصّ الحكايات

لكنهم يقصّونها وهم جثث متفحمة

ويلوّح دخانهم لنا في آخر الحكاية

ساكتاً عن الكلام المباح.

وحين يدركنا صباح مغبرٌّ

لا نستطيع قراءةَ أطفالنا

ونتركهم يهيمون في الشوارع

في شباك مصائرهم

من أجل ليالٍ قادمة

يروونها بدمهم أو دخانهم

أو صمتهم الأبدي.

الأيامُ اليابسةُ

الأيامُ اليابسةُ ما زالت في أكياسها

تنتظر من يقفلها جيداً

ومن يُلقي بها إلى البحرِ

فيها رسائلُنا وأحزانُنا ورمادُ عيونِنا

وفيها مسلاّتُنا السوداء

فيها أغشيةُ مدننا المحتقنة

فيها الكلماتُ الصلدةُ التي لا تتكرر

والسواحل الهاربةُ إلى الجحيم

تلك التي تلاحقها العقائدُ الطنّانة

الأيامُ اليابسةُ ما زالت في الصناديق.

لا تفتحها..

لانها ستعيق الحراثة

ولأنها ستجعلُ النهرَ أصفرَ

دعها هناك

يتولى النسيانُ إخفاءَها

وتتولى هزائمنا القادمةُ وضعَ الغطاءِ عليها.

مقابر فردية

لقد صنعوا تحت الأرض مقابر جماعية

أما نحن الذين نمشي على الأرض

فقد حوّلونا إلى مقابر فردية

كل صبيّ يمشي

معه قبرهُ

الأكفان في الطريق وعلى الأرصفة

الدفانون يلوّحون

كل امرأةٍ تبكي

معها قبرها

بطنها تنتفخ بالغبار

وسلالتها مقطوعة تعبث بها الريح

تحولت الحنطة إلى أحجار

وتحول الآس إلى تبنٍ

كأنها ذكريات آخرةٍ مرت

كأنها الأعرافُ

حيث انتظرنا على الأسوار آلاف السنين بين الجنة والنار

تحولت الأشجار إلى ذئابٍ

تحول الإنسانُ إلى حجر

أنجزنا الطفولةَ كما يجب

لكنّ الشبابَ انقطع بنا

ورمتنا الشيخوخةُ إلى البرك

لا تنادني كما يجب أن تنادي اللاعبين الماهرين

لاتذكرُ عينيَّ

بل قف مع عماي

وقل لي هذا حجرٌ وهذه ساقية وهذا رصيف وهذا شارع

لا تقل لي خُذْ الحياةَ بقوةٍ

بل تراصف لأجلي لكي أنقل شاهدتي إلى مكانها.

منذُ ضبابٍ بعيد

ونحنُ نتمشى في غرفنا الداخلية

ونتسولُ بروقَنا

منذُ قطارٍ بعيد

ونحن نصطحبُُ كلابَنا مع أرواحنا

ونتساءل عن مكان الدفن الأخير

منذُ غروبٍ بعيد

رمينا عكازاتنا في المياه

وتكلمنا مع فؤوسنا من جديد

الصحراءُ غرفتنا الجديدةُ

والجمرُ حمامنا الوحيد

أغمضتُ عينيّ عن آثار حياتي

ولم أتوقف عند أعمدتها

كنتُ عطشاً

وكان جوادي تابوتاً لي

لكن المقابرَ ما زالت مغلقة

رغم أنها فينا

ورغم أننا شوكها أحيانا أو حصاها أو غبارها

كان الغبارُ أزرقَ

وكانت المياه صفراء

لم يشاهدني أحدٌ وأنا أرطنُ بالأكاليل في الظهيرة

وأنا أرفع كأساً مفطوراً

أو أعبر جسراً مفطوراً

فوق مياه كانت صفراءَ دائماً.

ماذا نفعل؟

ماذا نفعل لكي نمنعَ سقوطكِ أيتها السماءُ على بغداد؟

هل تكفي هذه الأعمدة ُمن الجصِّ..!

هل تكفي قامات القتلى..!

هل تكفي أدعيتنا التي لا تنتهي..!

هل تكفي جبال حزننا..!

ماذا فعلنا؟

هل ثقّبناكِ أيتها السماءُ برصاصنا حدّ أنكِ تسقطين

أم جرحنا نهرَكِ

أم قتلنا ملائكتكِ؟

أيتها السماء.. لقد وعدِتنا بالجنّات

واليوم ترسلين غضبكِ علينا

فإذا تُبنا

فهل سنكون قد دفعنا الثمنَ كاملاً

أم أنك تعدّين لنا سقوطاً آخر

تنـزلين فيه بكاملك علينا..!!

أيتها السماء

ماذا نفعل؟

*شاعر عراقي

للعـــــودة للصفحة الرئيسة – العــدد التاسع