حــوار مع الشاعر عبد الزهـــــرة زكــــي
ناديـــــة السليماوي
أجريت هذا الحوار عبر الفيسبوك مع الشاعر عبدالزهرة زكي..كانت البداية محاولة مني لمعرفة رأي أحد أبرز شعراء قصيدة النثر عن دواعي تراجع الإهتمام بالقصيدة الحديثة لدى الشعراء الشباب والأجيال الجديدة..وكان هذا من متطلبات عمل بحثي له صلة ما بهذا الموضوع، حيث أدرس لنيل الماجستير في الأدب..لكن الحوار أخذ منحى آخر، هو غير المنحى الذي كنت أريده..ففي حديث مع شاعر ومثقف ويعرف ما يريد من الشعر تضطر المحاورة لتترك خطتها في الحوار وهدفها منه مستجيبة لمداخل أخرى يفتحها الحوار والكلام مع شاعر، اترك في هذه الصفحات الحوار بما كان عليه، وأنا بانتظار فرصة أخرى وعد بها عبدالزهرة لانجاز ما يتطلبه البحث مني.
* كانت التوقعات خلال السنوات الأخيرة قد ذهبت إلى أن عبدالزهرة زكي قد هجر الشعر تماما ..
ـ..من الممكن إعادة هذه التوقعات إلى انسحابي، بشكل كبير، من الحياة الأدبية، بفعالياتها ومقاهيها وملتقياتها ومشكلاتها، لصالح انهماك كبير في العمل الإعلامي.
نادرا ما أذهب إلى جمعة شارع المتنبي، في أحيان قليلة شاركت بفعاليتين أو ثلاث من فعاليات بيت الشعر على ضفة دجلة..نادرا أيضا ما احضر فعاليات ثقافية تقيمها المدى أو اتحاد الأدباء الذي قرأت فيه بعض نصوص جديدة في تشرين الأول الماضي ..أحيانا فعلا أشعر بأسف حين لا يتوفر لي وقت أو مزاج يسمحان بحضور نشاط ثقافي أتوقع أهميته من أهمية المشاركين فيه.
* هل يستحق العمل في الإعلام هذه التضحية بالشعر؟
ـ تحدثت لك عن غياب عن حياة ثقافية، ولا يعني هذا انقطاعا عن الشعر أو غيابا عنه..
* وهل يقلقك الغياب أو الانقطاع عن الشعر إلى هذا الحد؟
ـ لا.. أبدا، أتمنى فعلا أن استمر شاعرا، لكن اذا ما انقطعت عنه فهذا يعني انتفاء حاجتي إليه..الشعر وسيلتي التي استدعيها حين أكون في حاجة إليها، ولست ماكنة لإنتاج الشعر، ماكنة تنتفي قيمتها بانتفاء عملها الإنتاجي.
* ولماذا الإنسحاب من الحياة الثقافية والأدبية إذن؟
ـ يمكن أن أعزو الانسحاب، انسحابي من الحياة الأدبية، إلى تطور طبيعي في العمر والتجربة وتغير الظروف، سابقا كنت اشعر بمسؤولية الفاعلية في الحياة الثقافية لصالح الحفاظ على قيم الثقافة التي هددها الاستخدام التعبوي والإيديولوجي لها، كانت ثمة مجاميع من الشعراء الشباب من الثمانينيين والتسعينيين كانوا الأقرب اليَّ..وقبل هذا وفي المراحل المبكرة تحتاج إلى التفاعل والاحتكاك بالآخرين، تحتاج إلى معرفة قيمة ما تفعل من خلال صداه لدى الآخرين، رغبة ربما غير معلنة بالحصول على اعتراف، وسابقا طبعا كنت أكثر شبابا، والحياة الإجتماعية في الأدب وسواه يصنعها الشبان، مع تقدم العمر تشعر بمسؤولية مضاعفة إزاء العمل الإبداعي الشخصي، وينمو مع هذه المسؤولية زهد بالحاجة إلى الإعتراف والقبول..تتحول الكتابة في الشعر إلى شأن شخصي.. وترافق هذا التبدل في الوعي والتربية والخبرات مع التغيير السياسي الدراماتيكي في البلد بعد 2003 حيث فضلت ودعوت إلى أن يعمل المثقفون خارج تخصصاتهم الضيقة، بما يعضد خلق حياة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، وبفعل خبرتي في الإعلام فضلت أن أركز جهدي، لدواع وطنية، من اجل خلق إعلام عراقي جديد..أتذكر في 2003 اقترحت على اصدقائي من الأدباء والمثقفين أن لا يعملوا في الصفحات الثقافية، وجدت من المهم أن نملأ فراغات كبيرة في العمل الصحفي العراقي في مجال صناعة الأخبار والتقارير والتحقيقات، خارج حقل الثقافة..لكن، وكما ذكرت، لم أكن خلال تلك السنوات منقطعا عن كتابة الشعر والعيش في فضائه..وربما كانت طبيعة ما اكتب من شعر وطبيعة سلوكي الشخصي تسمحان لي بالنأي عن تجمعات المثقفين والمشاريع الجماعية في الشعر، وهذا ما هيأ لآخرين أني قد ابتعدت عن الشعر..إن هذا ناتج عن أن الكثير من الأحكام التي يجري التعامل بها هي نتاج لظواهر اجتماعية، نتاج لوجود في مقهى أو تجمع، بينما الثقافة، والشعر منها، هي سيرورة نصوص تتفاعل أو تتنافر مع بعضها، تتراكم وتتكاثر أو تتلف بعضها.هذه مشكلات ثقافية معقدة.
* لكن نصوصك في هذه السنوات ما بعد 2003 تتضارب وتتعارض مع بعضها..كتبت "شريط صامت"، وهي نصوص قلت أنها عن الرصاص والسيارات والدم، كانت نصوصا واقعية مباشرة صادمة، بخلاف نصوص كتاب الطغراء أو كتاب "لم يعد الطيران مغريا" التي تجنح نحو ما هو وجودي وإشراقي وكوني..هل أنت ممزق بين الأرض والسماء؟
ـ في التسعينيات أيضا ، قبل سنوات ما بعد 2003 كتبت "هذا خبز" وكتبت نصوص "الملائكة على شرفات مستشفى الأطفال" مقابل نصوص "كتاب الفردوس" ونصوص "باب وتراب" التي اشتركت بكتاب واحد مع "هذا خبز والملائكة على شرفات.."..في التسعينيات كنت تحت ضغط الحصار، الذي قلت عنه في مستهل مجموعتي الأولى "اليد تكتشف" انه حصاران، وكنت أريد بذلك حصار أمريكا وحصار السلطة، في ذلك الحصار ما كان لي أن أكون انسانا شاعرا ما لم اكتب "هذا خبز" وأنا لا أجد خبزة واحدة في بيتي، وما لم اكتب "الملائكة على شرفات مستشفى الأطفال" وأنا أشاهد رجلا خارجا من مدينة الطب حاملا طفله الميت بين ذراعيه منتظرا باص مصلحة نقل الركاب لعدم امتلاكه أجرة تاكسي لإيصال الطفل الميت إلى أمه في البيت..وبعد 2003 كان الرعب المباشر من القتل والتفجيرات والتأسي على آلاف الضحايا الذين التهمت حيواتهم شراهة العنف والإرهاب، كان ذلك الرعب والخوف على شعب يذبح وبلد يحرق لا يحتمل أية بلاغة أو فذلكة أو استهتار بالمعنى، معنى المصير الإنساني، لذلك جاءت نصوص "شريط صامت" عارية زاهدة بالزخرف والبيان..الموت أوقع بلاغا وأشد بيانا من أي فن كلامي، ويستحق أن تمنح لمعانيه حرية أن تظهر بما هي عليه مكتفيةً بجماليات البشاعة والرعب والألم والخوف والحزن..
* ألم تكن مغامرة منك ، من شاعر مثلك عرف باعتنائه الشديد بجماليات اللغة، أن تتخلى فجأة عن كل هذه الجماليات لصالح كتابة مباشرة؟
ـ لم احتج إلى شجاعة الجرأة على الفن وبلاغة الشعر لأكتب بهذه التعبيرية الوحشية المباشرة، كنت احتاج فقط إلى شجاعة مقاومة ألم كتابة تلك النصوص وقسوة لحظات كتابة أي منها وقبل هذا فظاعة العيش، عيشنا جميعا حتى الآن رهائن لموت محتمل الوقوع في كل حين..ولكن أفضِّل أن انسجم مع ما تذهبين إليه، وأقول فعلا يحتاج الشعر أحيانا إلى مثل هذه المغامرات..وفي مثل هذه الحالات علينا أن نفكر بأسلوب تنفيذ المغامرة وليس بالمغامرة ذاتها.ولا أتردد في افتخاري بتلك الأعمال التي انجزتها، من حيث فنيتها ومن حيث قيمة وشجاعة موقفها الإنساني الإحتجاجي.
اعتقد كانت استجابة النقد، والقراء أيضا، تؤكد على قيمة العمل الشعري في تلك النصوص، بل أن النقد كان له دور كبير وسريع في إضاءة عمل شعري مثل "هذا خبز"، كانت الدراسة الرائدة للأستاذ ناجح المعموري عن العمل، وبعدها الدراسة النفسية المهمة التي قدمها الدكتور حسين سرمك عن العمل ذاته مناسبة حيوية لوضع "هذا خبز" في سياق متميز في الشعرية العراقية والعربية المعاصرة..الأمر ذاته حصل مع نصوص "شريط صامت" التي كانت محظوظة بتوفرها على مقدمة كالتي كتبها الصديق الأستاذ قاسم محمد عباس، وهو ينشرها في ثقافية المدى، ثم أعقبتها القراءة السينمائية التي نشرها الأستاذ علي شبيب في الزمان.
* كل هذا لا يجيب عما إذا ما كنت ممزقا بين الأرض والسماء!!
ـ لا تعارض ولا تصادم بين أن اكتب كل تلك النصوص الصادمة والصارخة خلال عقدين كارثيين وبين قريناتها التي كتبتها بالتزامن معها وكانت تعنى، كما قلت أنت قبل قليل، بما هو إشراقي وكوني ووجودي، فالشعر كما افهمه وكما أعمل فيه، هو استجابة تعبيرية عن حاجة انفعالية، عن وجدان منفعل، والمهم في هذا هو صدق الإصغاء والإستجابة للانفعال والوجدان..سواء أكان مصدره واقعيا يوميا مباشرا أم وجوديا ذهنيا وكونيا..الشاعر في كل هذا هو إنسان تعتمل فيه كل هذه المؤثرات، لا ينبغي له أن يصغي لمؤثر ما ويطرد سواه، الشعر ليس إيديولوجيا، ليس ديانة، ليس معتقدا، وكان العرب الأوائل دقيقين في اجتراح هذه التسمية التي تقرن الشعر بالشعور، بالمشاعر..ومشاعر الإنسان هي نتاج لحركة مستمرة (حركة وليست تمزقا) بين دواخله وبين وجوده الأرضي، الحياة واليوميات والوقائع، وبين نزوعه الروحي والجمالي والذوقي..ربما تسحق الحياة، بوقائعها وكوابيس يومياتها، لدى بعض الناس، بل أغلبهم، قيم النزوع الأخير، الروحي الجمالي..فيما يشتط هذا النزوع لدى بعض آخرين على حساب واقعية وجودهم وحيواتهم، كما يحدث لدى المتصوفة وسواهم.. لكن الشعر هو ما ينتجه التوازن القلق بين كل تلك العوامل الضاربة بقوة في أعماق الشاعر ووجدانه.
* جميع هذه الأعمال كانت قصائد نثر..
ـ بالمفهوم العربي الدارج لقصيدة النثر نعم هي قصائد نثر..لكن بالمفهوم الغربي لهذه القصيدة وبالمواصفات التي يكتب بها الغربيون قصائدهم النثر..فإن معظم الأعمال التي تحدثنا عنها هي اقرب إلى الشعر الحر منها إلى قصيدة النثر..لا يكفي التخلي وحده عن الأوزان الشعرية لوصف النص على أنه قصيدة نثر، مثلما لا يكفي التوفر على الأوزان وحدها في النص لوصفه بالنص الشعري..الشعر أسلوب في الرؤية ننفذه باللغة، وقد نحتاج في التعبير عن هذا الأسلوب إلى الأوزان وقد لا نحتاج إليها، ذلك ما يقرره العمل نفسه..
* افهم من هذا أن العمل بالأوزان العربية، بالتفعيلة وبنظام الشطرين، ما زال ممكنا من وجهة نظرك؟
ـ نعم..ولكن هذا يعتمد على الأسلوب الذي تستخدم بموجبه الأوزان، أعني طريقة حضورها في النص..الرفض المسبق للأوزان هو الشكل الآخر للقبول المسبق بها على أنها هوية الشعر الأساسية.
ما يحدث حاليا في ما يكتب من نصوص تعتمد الشطرين هو الإمتثال المطلق لما تفرضه الذاكرة الإيقاعية والتعبيرية للأوزان عند إنشاء النص..بمعنى أكثر توضيحا أن الشاعر يملأ القالب الوزني بما تفرضه عليه مواصفات القالب وخزين تجارب استخدام القالب عبر التاريخ..وهذه مشكلة يعانيها الشاعر الجاد ويتذمر منها وقد ينفر من أعبائها، وفي تاريخنا الشعري عبر شعراء عن مثل هذه المعاناة فمنهم من تذمر ومنهم من نفر..
* لكن هناك مساع للتجديد في العمود..
ـ هذه المساعي مضيعة للوقت والجهد..بعض شعراء المهجر وأبوللو والديوان وسواهم حاولوا ذلك، لكن ما هي جدوى تلك الجهود؟ نستظرف بعض تجارب شوقي مثلا أو سواه، ولكنه استظراف في أي حال!! استظراف لا يسمح بالتعامل الجاد مع تلك التجارب التي تحيل بظرافتها إلى صورة تاريخية أرشيفية للشعر العربي..في أحسن أحوال شوقي، ما دام هو مثالنا، صلاحية ما كتب من نصوص للغناء، والغناء لا يفيد معه إلا رديء الشعر..بل أن زملاءنا من شعراء العامية أكثر حذقا من سواهم فهم يميزون بين القصيدة عندهم وبين الكلمات الغنائية، ويتعاملون مع مؤلف الأغاني ككاتب أغنية ومع شاعر القصيدة كشاعر قصيدة، ولا يعني هذا طبعا عدم وجود من يكتب الإثنتين معا.
* كنت أشير في السؤال إلى تجارب شعراء شباب عراقيين يكتبون العمود ويعلنون عن تجديد فيه..
ـ لا يختلف الأمر. ما قرأته من هذه التجارب لا يتجاوز تكرار نتائج الآخرين الذين سبقوهم في هذا المضمار، ويضيفون مصدرا آخر هو تأثرهم بما كان التحديث الشعري قد أنجزه في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي من بلاغات لغوية وأسلوبية وإعادة إنتاجها داخل العمود، لكن تلك الإنجازات هي مما تجاوزه التحديث الشعري وتركه وراءه.
* وهل الحل في قصيدة النثر وحدها؟
ـ لا أؤمن بوثنية الأنظمة الإيقاعية وعموم أنظمة الشعر..الشعر، كما قلت، شيء آخر غير الوزن أو عدمه..في قصيدة النثر، وحتى التفعيلة، الكثير من العبث والإدعاء وسخف الإستهتار بالشعر.لا يمكن لي أن اقرأ شاعرا مثل شوقي أبي شقرا، وقد كرسته دعاية تأليه التحديث وفوضى العمل في اللغة والشعر..في التفعيلة، وبقراءة جادة لكثير من شعر محمود درويش في طوره الأخير، هناك عبث كبير يتستر بالصخب الموسيقي لتفعيلة الكامل، وليس عسيرا على ناقد متحرر من سطوة اسم محمود درويش أن يفضح هذا العبث الذي تواطأ النقد والجمهور على قبوله كشعر.
في الشعر لا توجد حلول مسبقة يقترحها شاعر أو منظر أو ناقد..الشعر هو الذي يجترح حلوله اللازمة للحظة تأليفه، له هو كقصيدة تنكتب، غير عابئ بالبحث عن حلول لأزمات نراها في الشعر..الأزمات في النصوص وليست في الشعر.والشاعر لا يبحث عن حل لأزمة في الشعر قدر ما هو معني بأزمة يتجاوزها أو لا يتجاوزها مع كل كتابة لعمل جديد، أزمة العمل نفسه.
للعـــــودة للصفحة الرئيسة – العــدد التاسع